الصفحة الرئيسية

المعارضة والثورة والوحدة


لقد كان الإمام يحيى إماماً كأسلافه من الأئمة في عهودهم الأولى والطويلة، حيث كانت طبيعة الحكم المبرر بالدين والنسب تقوم على الفردية المطلقة المفضية إلى الاستبداد ؛ إذ لا حكومة ولا مؤسسات حكم. لقد اعتبر الأئمة الناس رعايا وفي خدمة من أرادهم الله أئمةً وحكاماً للمسلمين، واعتبر الخارج عن الإمام خارجاً عن طاعة الله.

لقد أمضى الأئمة معظم سني حكمهم في الحفاظ على الحكم وخوض الحرب ضد الطامحين من أئمة آخرين، وضد القبائل المتمردة والشخصيات الطامحة للاستقلال بمناطقها، وهو ما يتطلب الحصول على الأموال الكثيرة للإنفاق على القبائل المقاتلة ضد الخصوم، وللحصول على زينة الحياة الدنيا ورغدها، الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى التعسف في فرض الضرائب على المواطنين، وإطلاق أيدي الجباة في رقاب الناس وأرزاقهم، أما ما يحتاجه الناس وما يطمحون إليه ، ماذا يحتاجون وكيف يجب النهوض بمستوى معيشتهم، فقد كانت من سقط المتاع الذهني، ولم يكن ليشغل الأئمة أنفسهم في جل أحوالهم إلا بواجبات المواطنين تجاههم ، أما مفردات الحرية والتحديث والتطوير الشامل للبلاد والعباد ، والارتفاع بمستوى حياة الناس المعيشية فقد كانت مفردات غريبة على طبيعة الحكم الديني ، ستتألق فيما بعد عند الغيورين من أهل اليمن والطامحين بإحداث تغييرات في حياة المجتمع والسلطة السياسية ، وقد كانت المقارنات بين حال اليمن وحال البلاد الأخرى تقذف باليمن بعيداً في أزمنة التاريخ الأولى ، ولا تمكن من إقامة أي صلة مع عالم القرن العشرين المائج بمختلف التطورات التقنية والعلمية والمذهلة في سرعتها.

 لقد أغلق الأئمة أعينهم وصموا آذانهم عن كل هذه المتغيرات ، وأقاموا حاجز عزلة منيع خشية على البلاد من الغرباء حسب زعمهم، بينما هي خشية على السلطة من الضياع، لقد تضافرت ويلات البؤس والفقر والعزلة لتجعل من اليمن واحدة من أكثر بلاد الله تخلفاً وغرقاً في ظلمات الأزمنة البدائية، ومع ذلك فقد كانت المدارس القليلة المتواجدة ومدارس الكتاب والمدارس التي وجدت في جنوب اليمن المحتل وتأثيراتها في مناطق جنوب الشمال، بالإضافة إلى البعثات العسكرية المحدودة نواة مقاومة تضافرت مع بعضها البعض لتنتج طابوراً من الوطنيين الغيورين المطالبين بالتغيير والإصلاح .

لقد كانت هزائم الإمام عام 1934 م -كما ذكرنا سلفا- فاضحة لطبيعة الحكم الإمامي، لذا ليس غريباً أن تقوم في العام التالي مباشرة أولى المحاولات لإنشاء معارضة منظمة ضد الإمام . ومع أن المحاولة لم تسفر عن قيام تجمع سياسي من أي نوع ، إلا أنها حشدت قوى المعارضة في الداخل والخارج باتجاه الفكرة ، رافعة شعار الإصلاح ، وقد وجدت كثير من الأصوات الوطنية في مجلة ((الحكمة)) الشهيرة والتي صدرت عام 1938م واستمرت عامين فقط قبل أن يتنبه الإمام لخطرها ويغلقها- وجدت متنفسها للتعبير عن طموحات اليمنيين في الإصلاح والمضي نحو التغيير، لكن التبلور النهائي لميلاد أول منظمة سياسية سرية لم يكتمل إلا عام 1940م حين تشكلت في القاهرة ما عرف باسم (كتيبة الشباب اليمني) ، التي عبرت عن رغبتها في تجذير المعارضة في الداخل للدفع بطموحات المعارضة إلى الأمام، وهي الطموحات التي لم تكن بعد قد تبلورت أهدافها بوضوح كافٍ متفق عليه، وفي العام التالي كانت الرؤية أشمل وأوسع عندما أصدرت قوى المعارضة برنامج هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد قدمت هذه المطالب للإمام يحيى ثم لابنه سيف الإسلام أحمد (ولي العهد) في تعز، إلا أن موقف الأول لم يكن بأحسن من الثاني؛ إذ رفضا بنود البرنامج وأخذا يطاردان رموز المعارضة ويتهددونهم بالويلات، بل ويغرون سلطات الاحتلال البريطاني في عدن للضغط على قوى المعارضة ، وقد استجاب الإنجليز لذلك، واستمرت المعارضة قدما في كشف عيوب النظام الإمامي وتصوير تخلفه عن ركب الأمم المتقدمة، فتشكل عام 1944م حزب الأحرار اليمنيين أو ما عرف فيما بعد بـ ((حركة الأحرار)) ، وقد أخذ هذا الحزب عبر المجلات المختلفة يعلن عن طموحاته في التغيير والإصلاح ويكشف عيوب النظام الإمامي البدائي ، وفي عام 1946م شكل الأحرار ((الجمعية اليمنية الكبرى)) في عدن وأصدروا جريدة ((صوت اليمن)) الشهيرة، التي أخذت تفضح ممارسات الإمام الظالمة تجاه الشعب وتطالب بالإصلاح والتغيير ، وقد تضمنت وثيقة مطالب الشعب اليماني ما أرادته القوى الوطنية حول الإصلاح والتغيير ، حيث طالبت لأول مرة بإقامة حكم دستوري شوروي يرفع أغلال الاستبداد عن كاهل الشعب اليمني، وقد وجد الأحرار أنه لا سبيل لتحقيق طموحاتهم الوطنية في ظل نظام حكم الإمام القائم بدؤوا في الإعداد للإطاحة بالإمام و حكمه وذلك من خلال استغلال الشروخ في أركان الحكم والاستفادة من أية تحالفات ممكنة ووجد الأحرار ضالتهم في طموح عبد الله بن أحمد الوزير للإمامة الذي وافق على مطالب الأحرار مقابل عونهم له فقامت حركة 1948م التي نجحت في قتل الإمام يحيى. إلا أنها لم تنجح في الإطاحة بنظامه ، إذ بعد ثلاثة أسابيع فقط تمكن نجل الإمام سيف الإسلام أحمد بن يحيى حميد الدين من الفرار من تعز إلى حجة وهناك تمكن من حشد القبائل إلى صفه مغرياً إياها بإباحة صنعاء لهم للسلب والنهب، وتمكن من دخول صنعاء والقضاء على الحركة وقتل وسجن وتشريد زعمائها،ثم أعلن نفسه إماماً بدلاً عن أبيه، وقد حافظ الإمام أحمد الملقب بالناصر لدين الله على نظام الحكم الموروث برمته، رغم تطلعه إلى عقد معاهدات مع دول خارجية كالاتحاد السوفيتي والصين. بل إنه دخل في الاتحاد الثلاثي المشكل إلى جانب اليمن من مصر وسوريا، إلا أن كل هذه الأمور لم تغير شيئا في الواقع المعاش لحياة الناس، ورغم ما أصاب المعارضة من نكسة ووهن في الأعوام التالية لحركة 1948م، إلا أنها تمكنت من إحياء نشاطها ثانية ، بإنشاء منظمة جديدة في عدن هي الاتحاد اليمني وبفضل الدعم الكبير المعنوي والمادي من مصر بعد ثورة الضباط الأحرار هناك عام 1952م وتزعم عبد الناصر لفترة من فترات النضال العربي ضد التخلف والاستعمار ومن أجل الوحدة العربية ومجابهة إسرائيل، تمكن الأحرار من مواصلة نضالهم من هناك، لقد كانت القاهرة وإذاعة القاهرة مكاناً وأداة لنشاط الأحرار اليمنيين العملي والإعلامي فظهر برنامج جديد للأحرار بعنوان(( آمالنا وأمانينا)) ، وفي عام 1955 م تطور حادث الحوبان الشهير إلى محاولة انقلابية ضد الإمام أحمد في تعز ، وقبل الوطنيون أن يستبدلوا الإمام بأخيه علَّهُ أن يكون أفضل من الإمام أحمد ولكن المحاولة التي قادها الثلاياء آلت بعد أيام إلى الفشل، وتمكن الإمام أحمد من الاحتفاظ بسلطته ثانية، واستمرت المعارضة في نشاطها ضد الإمام الذي حاول شق صفوف الحركة بتبني بعض مقولاتها ، لكن المعارضة أصدرت في العام 1956 م برنامجاً جديداً بعنوان مطالب الشعب أكدت فيه مطالبها السابقة، ومع ذلك ، وبفعل دأب الإمام على شق الصف الوطني، شهدت معارضة الأحرار المنضوية تحت مسمى ((الاتحاد اليمني)) بعض الانشقاقات .

لكن زخم المعارضة استمر في التصاعد داخل البلاد وخارجها عبر التجمعات الوطنية لليمنيين التي تشكلت بشكل خاص وفاعل في كل من الحبشة وبريطانيا، وحشدت المهاجرين اليمنيين نحو فكرة الجمهورية والتخلص من نظام الإمامة العتيق والمتجاوز زمنياً.

 وفي السنوات التالية زاد هذا الاتجاه تجذراً في أوساط جماهير أوسع من الشعب اليمني، بفضل انتشار الأحزاب الوطنية السرية بمشاربها الفكرية المختلفة ، وقد ساهم بعض الضباط في التمهيد للثورة حين أرادوا عام 1961م التخلص من الإمام في الحديدة ، إلا أنه نجى من القتل مثقلاً بالجراح التي لازمته حتى وفاته في 19 سبتمبر 1962م ، فخلفه ابنه البدر محمد الذي أعلن تمسكه بخط أبيه في السياسة والحكم. وكانت قناعة القوى الوطنية في البلاد لإحداث التغيير الجذري في طبيعة الحكم قد دفعت بترتيبات الثورة قدماً، وبعد أسبوع فقط من تولي الإمام البدر مقاليد الحكم، أي في 26/سبتمبر 1962م انفجرت الثورة اليمنية المظفرة التي أطاحت بالإمامة جسداً وفكراً .

 ومع الثورة سقط التبرير الديني لحكم لسلالات، ليحل محله التبرير الجماهيري لحكم القادر على خدمة البلاد والعباد بإخلاص وتفان ، ومن أيٍّ من أبناء الشعب اليمني دون قصر على سلالة أو قبيلة أو مذهب.

 لقد أخرجت ثورة سبتمبر بأهدافها الستة المعلنة اليمن  من ظلمات العصور البدائية وبراثن الجهل والفقر والمرض إلى رحاب التاريخ المعاصر بمتغيراته المتنوعة، بعد عام فقط من قيام الثورة في شمال اليمن قامت ثورة يمنية أخرى في 14 أكتوبر من عام 1963م تنطلق من جبال ردفان ضد المحتل البريطاني ، لتقض مضجعه، ولتجبره على الرحيل في 30 نوفمبر عام 1967م ، بعد أربع سنوات فقط من اندلاع الثورة، ورغم جلاء الاستعمار البريطاني في 30 نوفمبر من عام 1967م ، وتوحيد السلطنات المتعددة في جنوب اليمن إلا أن أهل اليمن قد شهدوا أول انتكاس قوي لأمانيهم في إعادة توحيد اليمن الذي شطرَّهُ الغرباء . فاليمن طوال تاريخه الذي مر بنا لم يشطر رسمياً إلا من قبل الغرباء، أما ما حدث في اليمن من دول ودويلات تقاتلت على السيادة والنفوذ، فلا يجب أن يكون مستغرباً إن قلنا أن تاريخ تلك الدول والدويلات بما فيه من حروب من أقوى الأدلة على وحدة التراب والإنسان اليمني ، إذ كانت تلك الدول أو الدويلات تتسمى بأسماء أسرية: صليحية ، رسولية ، طاهرية ،كثيرية قعيطية ...الخ داخل اليمن ، وتحاول كل دولة أن تفرض سيطرتها على اليمن بكامله ولا تقبل بوجود جزء منه تحت سلطة دولة أخرى في حين أنها لم تتجه لتجاوز ذلك و الاعتداء على الآخرين خارج نطاق اليمن ، أي أن كل الدول والدويلات اليمنية كانت تعي الحدود الجغرافية و التي تسعى في إطارها لبناء دولة يمنية كبرى قوية، ولم تحاول أي من الدول الموحدة لليمن والقوية أن تتجاوز ما اعتبرته المجال الجغرافي الحيوي لتوسعها لتذهب معتدية إلى بلاد الغير ، وعليه فإن تبادل النصر والهزيمة بين الدول اليمنية المختلفة وداخل إطار جغرافي محدد هو الذي صاغ الوجدان اليمني وحدوده الجغرافية . ولا يجوز أبداً فهم الحروب بين الدول اليمنية على أنها حروب من أجل حدود جغرافية أو بين أقوام لا صلة لبعضهم ببعض، يكفي أن نشير أن اسم اليمن ظل موحداً رغم تنوع أسماء الدول والدويلات ، وهو الاسم الذي شطره لأول مرة -كما ذكرنا -الإنجليز والأتراك في اتفاقية الحدود بينهم عام 1914م، وحاولوا صياغة شخصية خاصة لجزء من اليمن تباين الأخرى، لذلك لا غرابة في أن يبدو هذا التشطير القصير العمر نسبياً نشازاً في تاريخ اليمن ، وهذا الوضع النشاز هو الذي حافظ على مشاعر اليمنيين تجاه الوحدة كمخزون وطني ضاغط على الحكام الذين لم يستطيعوا تجاوزه ، وإن أوهموا أنفسهم بأنهم قادرين، ولذلك كانت الانتكاسة النفسية كبيرة لدى اليمنيين وهم يرون أن الأجنبي الآخر الذي شارك في التشطير يجبر على الرحيل ولا تتم الوحدة بعد رحيله.

لم تتم الوحدة بعد جلاء الإنجليز بفعل تشابك وتعقد الاتجاهات السياسية وهيمنة الإيديولوجيا على طبيعة أنظمة الحكم العالمي آنذاك والمؤثرة على مصائر البلدان الصغيرة والضعيفة، وأخذ الشطران تحت تأثير الأيديولوجيات السياسية و الوضع العالمي القائم يبتعدان سياسياً عن بعضهما فيما أفئدة الجماهير اليمنية في كل اليمن تلتهب شوقاً لإعادة توحيد اليمن، ولم يكتف الشطران بالابتعاد عن بعضهما ، لكنهما خاضا حربين داميتين في الأعوام 72 و 1979م ، وظلت أشواق اليمانيين نحو الوحدة تعبر عن نفسها بأشكال شتى وفي كل اتفاقية عقب كل حرب أو أزمة في العلاقة بين الشطرين إلى أن تحققت الآمال بإعلان الوحدة اليمنية و قيام الجمهورية اليمنية في 22 مايو 1990م.



جميع الحقوق محفوظة للمركز الوطني للمعلومات - اليمن